التوطين والترجمة.. من أجل صناعة محتوى يفهم السياق الثقافي

7 ديسمبر 2025
عبدالله عبدالوهابعبدالله عبدالوهاب

في ستينيات القرن الماضي، كانت Pepsi في قمة طموحها، وشعارها الأيقوني "Come alive with the Pepsi Generation" بلغ صداه عقول الملايين حول العالم، لكن عندما قررت الشركة فتح أسواق جديدة، حملت معها هذا الشعار كأنه تميمة حظ لا تحتاج إلى معالجة في الأسلوب.

فريق الترجمة الذي تولى مهمة تدويل الشعار لنقله إلى الأسواق الأخرى تسبب في كارثة للشركة، فعندما وصلت الحملة إلى الأسواق الصينية، كان وقع الشعار مغايرًا تمامًا للسياق: "Pepsi يُحضر أجدادك من القبر".

في الثقافة الصينية، لم تكن هذه إساءة بسيطة، وبدلًا من إلهاب حماس الجماهير وترحيبهم بالحملة، استشاط الجمهور غضبًا، وكانت هذه لحظة تحول في تاريخ التسويق العالمي، اللحظة التي أدركت فيها الشركات الكبرى أن الترجمة الدقيقة ليست كافية.

هنا يكمن الفرق الذي لا يراه معظم الناس، أن الترجمة تتعامل مع اللغة، بينما التوطين يتعامل مع الحياة.

التوطين، يسأل سؤالًا أعمق: كيف سيستقبل الجمهور هذه الرسالة؟ ما الذي يثير فضوله؟ ما الذي يؤذيه؟ ما الكلمات التي تجعله يشعر بالانتماء أو الاغتراب؟

Adidas السعودية نموذجًا

عام 2024 فتحت Adidas أول متجر نسائي متخصص في الرياض، وهذا مثال حي على التوطين الذي نتحدث عنه، العلامة التجارية العالمية خاطبت المجتمع السعودي بلغته وثقافته، ولم "تترجم" المنتج الغربي، بل أعادت ابتكار الفكرة ذاتها لسياق مختلف.

المتجر مصمم خصيصًا للمرأة السعودية، إضاءة دافئة، مساحات مريحة، منتجات تضم عباءات رياضية وحجاب رياضي لم تنتجها العلامة التجارية لأحد من قبل، إلى جانب أنهم عملوا مع مصممة سعودية محلية (Kaf by Kaf) لإنشاء مجموعة رياضية تمزج بين الملابس التقليدية والرياضية الحديثة.

النتيجة التي حققتها العلامة التجارية أكبر من الأرباح، كان هناك شعور لدى الجمهور بأن العلامة التجارية تفهم من هم، وتحدثت النساء عن شعور بالتمثيل، بالقيمة، بأن العالم أخيرًا نظر إليهن، هذا هو التوطين.

نماذج وقعت في الفخ

عندما أطلقت HSBC شعارها "Assume Nothing"، كانت الفكرة جميلة: "لا تفترض، استمع أولًا" كان الهدف من هذه الحملة تعزيز الثقة وطمأنة العملاء بأن البنك سيلبي احتياجاتهم دون أي افتراضات، ولكن عندما ترجمت حرفيًا إلى عدة لغات، خرجت بمعنى "لا تفعل شيئًا" وشتان بين الرسالتين.

أنفقت HSBC 10 ملايين دولار لإصلاح الكارثة الناتجة عن هذا الخطأ، الذي لم يكن مشكلة الترجمة، بل مشكلة الفهم العميق للفكرة الأصلية وكيفية إعادة صياغتها، لتتعلم الشركة الدرس بأن اللغة وحدها ليست كافية.

مثال آخر على سوء فهم ثقافة السوق هو قصة Just Falafel، العلامة التجارية، التي أسسها محمد بيطار وعلياء المزروعي، كانت شهيرة في أوروبا.

كانت الفكرة قائمة على إضفاء لمسة جديدة وعصرية على الفلافل، بسعر أغلى، وقد كان نجاحها في أوروبا ملحوظًا إذ أنها مثلت للسوق هناك شيئًا جديدًا -طعام عربي أصيل لكن بلمسة عصرية.

لكن عندما عادت الشركة إلى الوطن العربي اكتشفت حقيقة مؤلمة: الفلافل بالنسبة للشعوب هنا ليست شيئًا يحتاج إلى إضفاء لمسة جديدة، الفلافل موجودة في الشارع، بأسعار رخيصة، طعم أصيل، يدوية الصنع تمثل عراقة وأصالة البلد.

حاولت أن تبيع "نسختها المميزة من الفلافل" بسعر ثلاثة أضعاف، فكان وقع ذلك على الناس أن العلامة التجارية تقول لهم: "طعامكم ليس جيدًا - تعالوا نعلمكم كيفية تناوله بشكل صحيح".

الأمثلة كثيرة على العلامات التجارية التي لم تكن مشكلتها الترجمة، أكثر من أنها كانت مشكلة فهم السياق الثقافي.

كيف تبني استراتيجية توطين حقيقية؟

سأسرد لك عزيز القارئ بعضًا من الاستراتيجيات التي تساعدك على أن تكون موطنًا وليس مترجمًا، والتي أطبقها على الصعيد الشخصي.

وجودك كل يوم بين أطياف مختلفة من الناس سيمنحك فهمًا عميقًا للحياة المحلية وما يحتاجه الناس فعلا من مرادفات تؤثر فيهم.

الخطوة الأولى: اجلس في مقهى محلي، استمع إلى طريقة الناس في الحديث، افهم الكلمات التي يكررونها، والأمثلة التي تجعلهم يومئون برؤوسهم، والأشياء التي تجعلهم يضحكون أو يصمتون.

الخطوة الثانية: اكتب قائمة بالكلمات المفضلة للجمهور، والمحظورة، والنبرات المقبولة، واصنع قاموسك الخاص.

الخطوة الثالثة: أعد إنتاج الفكرة، لا النص، وهذا هو الدرس الأهم: لا تبدأ بالنص الأصلي وتحاول تحسين ترجمته، ولكن أعد صياغة الفكرة الأساسية بما يناسب السياق المحلي.

الخطوة الرابعة: لا تقع في حب فرضيتك. قد يكون ما تكتبه هو أعظم شيء بالنسبة لك، ولكنه لا يمثل شيئًا للجمهور، لذا أرسل نسخة أولية إلى مجموعة صغيرة من الجمهور، واسألهم إذا كانوا يشعرون أن الرسالة واضحة وتمثلهم وتؤثر فيهم، وتقبل النقد بصدر رحب.

المقياس الحقيقي للنجاح

عندما تقرأ محتوى موطّنًا بشكل جيد، تشعر بشيء مختلف، لن يحدث ارتباك عقلي أو توقف عند جملة معينة خارج السياق. ستكون كل كلمة في موضعها الصحيح، وسيقول الناس هذا الواقع الذي يمثلنا.

أما المحتوى المترجم فقد يحمل كلمات صحيحة، لكن بدون روح، وبالتالي لن تجذب انتباه الناس أو تخلق رابطة حقيقية.

ما أود أن أقوله في نهاية الأمر، أن التوطين لا يعد فنًا، لكنه احترام. الفرق بين الترجمة والتوطين ليس فرقًا تقنيًا فقط، بل هو فرق أخلاقي وإنساني.

الترجمة تحمل رسالتك من لسان إلى آخر، بينما التوطين يحمل في طياته رسالة إلى الجمهور مفادها: "سأفهم عالمك أولًا، ثم سأتحدث معك بطريقة تشعر معها أنني منك، وأن رسالتي جُعلت خصيصًا لك".

 

مقالات شائعة

Share:
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram