المحتوى والديناصورات.. هل يسهم الذكاء الاصطناعي في انقراض الكبار؟

أكتوبر 19, 2025
حسين السيدحسين السيد

قبل نحو 66 مليون سنة، انقرضت الديناصورات، هكذا فجأة، بكل ما كانت تمثله من قوة وضخامة وسيطرة على بيئاتها المحيطة..

يقول العلماء -في أكثر الفرضيات قبولًا داخل الأوساط العلمية- أن كويكبًا ضخمًا اصطدم بكوكب الأرض، وأنتج اصطدامه طاقة تعادل آلاف القنابل النووية، ما أنتج سلسلة من الحرائق والتسونامي والغبار النووي، الذي منع أشعة الشمس من الوصول إلى الأرض، فماتت النباتات وانهارت سلاسل الغذاء وانقرضت الديناصورات، لأنها لم تستطع التكيف مع هذه الظروف القاسية بحجمها الكبير وحاجتها لموارد ضخمة للبقاء على قيد الحياة!

وفي حين انقرض الأضخم والأقوى والأكثر سيطرة، نجا أولئك الذين تكيفوا، واستطاعوا التغذي على المتحللات أو الجذور الميتة، أو الذين امتلكوا أنظمة غذائية متنوعة لم تكن معتمدة على نوع غذائي واحد ماتت بموته.

متغير واحد إذًا -الكويكب الضخم- دخل إلى بيئة مستقرة، ولم يستطع الكبار التكيف معه؛ فانقرضوا تماما!

ما علاقة هذا بالشركات الكبرى في عالم صناعة المحتوى؟

يمكن -بشكل ما- اعتبار الذكاء الاصطناعي الكويكب الذي يحتمل أن يهز استقرار سوق صناعة المحتوى، والمتغير الذي يمكن أن يؤدي إلى انقراض الكبار، ما لم ما لم يسارعوا إلى التكيف مع الأوضاع الجديدة.

الهياكل الوظيفية

تعتمد الهياكل الوظيفية في الشركات الكبرى على عدد كبير من الموظفين. تؤمن هذه الشركات بالتقسيم والتخصص، وهو ما يضمن أعلى درجات الجودة، ويوفر أكبر قدر من الحوكمة للتفاصيل الكثيرة المرتبطة بحجم العمل الكبير.

وإذا كان هذا الشكل هو الأنجح حتى اللحظة، فإن المستقبل ربما يحمل تغيرات جذرية، فالكثير من منصات صناعة المحتوى الريادية، وفي سبيل ضغط النفقات والحفاظ على الموارد، ستلجأ إلى موظفين قادرين على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بشكل واسع، ومن ثم يستطيع الموظف الواحد القيام بأعمال عدد من الموظفين.

سيتمكن صانع المحتوى صاحب المعرفة القوية بأدوات الذكاء الاصطناعي المختلفة، وبقليل من التدريب، من إنتاج محتواه من الفكرة والنص حتى التصميم والفيديو وصولًا إلى النشر والترويج وتحليل تقارير الأداء.

ستؤدي الأتمتة منخفضة التكلفة إلى تعويض فوارق هائلة في الموارد بين الشركات الناشئة والشركات الكبرى، وستمنح الشركات الواعدة القدرة على التوسع السريع، والحصول على المزيد من المشروعات، بل ومنافسة الشركات الكبرى على بعض المستويات، وبتكاليف تشغيلية تقل كثيرا مقارنة بالاعتماد على الهياكل الوظيفية الكلاسيكية، ما سيضمن لهذه الشركات نوعًا من الاستقرار، ويشجع الموظفين الأكفأ على اختيارها، بعدما كانت المؤسسات الكبرى تمثل لهم قيمة الاستقرار.

السرعة والإبداع

واحدة من التحديات التي تواجه الشركات الكبرى مع تضخم هيكلها الوظيفي، هي بطء آليات اتخاذ القرار، وتعدد المراحل، هذه الحركة البطيئة "للديناصورات" تجعل جسدها الكبير يمثل -في بعض الأحيان- عبئًا كبيرًا، ويمكن الشركات الأصغر، والمعتمدة على الأتمتة أكثر، من التكيف السريع مع متغيرات السوق، ويتيح لفرقها الصغيرة إنتاج حلول أكثر إبداعًا تتحرر من القيود البيروقراطية المرتبطة بالمؤسسات الكبرى.

القدرة على التجريب

ولا تُعد البيروقراطية القيد الوحيد الذي يغل يد مؤسسات صناعة المحتوى الكبرى، فتصورات هذه المؤسسات عن نفسها وعن مستقبلها تمثل -في أحيان كثيرة- عائقًا إضافيًا أمام التغيير. وغالبًا ما يمنعها الخوف من انخفاض جودة المخرجات مقارنة بالمنتج البشري من الانخراط الجاد في عالم الذكاء الاصطناعي، إذ تخشى أن تتحمل تبعات أي تراجع في المستوى.

في المقابل، تتمتع المؤسسات الأصغر بمرونة أعلى وقدرة أكبر على التجريب. فهي ليست مثقلة بأعباء السمعة ولا مطالبة بالحفاظ على صورة “الديناصور” الذي يجب أن تبدو كل مخرجاته بمستوى حجمه وهيبته.

هذا التحرر من الضغوط يمنحها مساحة أوسع للمحاولة والخطأ، فتجرب كثيرًا، وتتعلم بسرعة، وعندما تنجح في إنتاج عمل استثنائي، يتحول نجاحها إلى حدث لافت يهز السوق، لأنه جاء من حيث لا يتوقع أن يأتي.

هل معنى هذا أن انهيار مؤسسات صناعة المحتوى الكبرى مسألة وقت؟

تعتمد الإجابة على هذا السؤال على الطريقة التي ستتصرف بها هذه المؤسسة أو تلك، فالمؤسسة التي تصر على المضي قدمًا في طريقها، دون التنبه لما يجري حولها، ودون اتخاذ إجراءات فاعلة للتكيف والتغيير الهيكلي، ستنهار مع الوقت من غير شك.

أما المؤسسات الكبرى التي ستتنبه مبكرًا، وتتخذ إجراءات حقيقية، غير شكلية، فسيصبح لديها فرصًا أكبر من غيرها على التوسع، والاستمرار، بل وملء المساحات الفارغة التي سيتركها انهيار شركات أخرى في السوق سريع التحول.

ما هي الإجراءات التي ينبغي على المؤسسات الكبرى تنفيذها للتكيف مع الذكاء الاصطناعي؟

  • التدريب

يجب أن يكون الهيكل الوظيفي للشركة أو المؤسسة -على مختلف مستوياتها- متمكنًا من استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي المرتبطة بمهام عمله، مدركًا بشكل كامل لما تمنحه هذه الأدوات من ممكنات، وما يمكن أن تسببه من مشكلات، ويجب أن يكون هذا التدريب منهجيًا ومؤسسيًا غير متروك للمبادرة الشخصية من الموظفين.

  • البحث والتطوير

ينبغي على المؤسسات الكبرى استحداث أقسام للأبحاث والتطوير، وتزويدها بالميزانيات اللازمة لإطلاق منصات محتوى تقوم على هيكلة جديدة تتجاوز الهياكل التقليدية، وتقدم محتوى مدار بشريًا مصنع باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، ما يضمن للمؤسسة الكبرى وجود مسار تقليدي بشري قائم، وآخر ينفق عليه من الأموال المرصودة للأبحاث يعتمد كليًا على الذكاء الاصطناعي تحت إشراف بشري محدود.

سيؤدي نجاح هذه المشروعات التي يديرها قسم البحث والتطوير، إلى إدخال مدروس للذكاء الاصطناعي في الأعمال اليومية للمؤسسة، والانتقال من البشري تمامًا إلى نسب مرتفعة من الأتمتة دون التأثير بشكل واسع على الجودة، أو إحداث صدمة تقنية تطالب موظفين غير مؤهلين بالتعامل مع تقنيات متقدمة.

مع ضرورة الأخذ في الاعتبار، أن هذه الأقسام المستحدثة، لا بد وأن تضم ممثلين عن الأقسام المسؤولة عن إنتاج المحتوى التقليدي، تتركز مهمتهم على أتمتة المهام البشرية، وتسريع وتيرة الأعمال، وألا تعتمد هذه الأقسام على موظف أو اثنين من خارج إطار العمل التقليدي، ما سيحدث صعوبة بالغة في الربط بين الهياكل الحالية، والهياكل الحديثة المفترض إنشائها.

  • إعادة بناء الأهداف

بناءً على مخرجات أقسام البحث والتطوير، ينبغي على المؤسسات الكبرى إعادة تقييم أهدافها، ومن ثم إعادة بنائها -كمًا وكيفًا، زيادةً أو نقصانًا- بما يتناسب مع الإمكانات الجديدة لفريق تم تدريبه وأضحى مؤهلًا للاستخدام الفعال لأدوات الذكاء الاصطناعي، ومع الطرق الجديدة لإنتاج المحتوى التي أثمرتها عمليات البحث والتطوير.

  • إعادة الهيكلة لتحقيق الأهداف

بعد الانتهاء من وضع الأهداف الجديدة، الناتجة عن التحول المنهجي للمؤسسة، يتوقع القيام بعملية إعادة هيكلة كاملة، تعيد توظيف قدرات الموظفين، وتستبعد غير المؤثرين، أو غير القادرين على الاندماج في المنظومة الجديدة، وتبسط الهياكل الوظيفية المعقدة، وتستخدم الأتمتة في خطوات العمل، وتبني فرقًا أصغر وأكفأ، وتسرع عمليات اتخاذ القرار، وتعيد تشكيل الأوضاع لخلق ما يشبه خلايا العمل المستقلة المتكاملة، أو شركات ريادية صغيرة داخل مؤسسة ضخمة، تجمع ما بين الحجم الكبير، والمرونة، والقدرة على التخفف من الأعباء غير الضرورية، والتكيف مع المعطيات الجديدة لعدم الانقراض!

 

مقالات شائعة

Share:
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram