سيكولوجية المحتوى القصير.. لماذا نتوقف عند الثانية الثالثة؟

نوفمبر 16, 2025
عبدالله عبدالوهابعبدالله عبدالوهاب

في المقاهي المزدحمة، الشوارع، المولات، أجول بعيني فأرى فئات عمرية متعددة يجمعهم شيء واحد: فنجان تحمله يد وهاتف بالأخرى، عيون تتحرك بإيقاع محموم أعلى وأسفل الشاشة. كل ثانيتين أو ثلاث، تمرر الإصبع لأعلى، وتتوقف لنصف ثانية، ثم تتكرر الحركة نفسها. مشهد يلخص معنى استهلاك المحتوى.

هذا المشهد ليس استثناءً، بل هو واقع حال أكثر من 5.4 مليارات شخص حول العالم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي يوميًا، وبصفتي صانع محتوى دفعني هذا المشهد للبحث عن إجابة: ما الذي يحدث فعلًا في أدمغتنا خلال تلك الثوان الأولى من مشاهدة المحتوى القصير؟ ولماذا تحديدًا الثانية الثالثة هي نقطة اللاعودة؟

الدماغ آلة تبحث عن الأنماط

في اللحظة التي نفتح فيها تطبيق تيك توك مثلًا، تعمل أدمغتنا مثل المحقق، في رحلة بحث عن الأنماط المألوفة، وخلال أول 300 ميلي ثانية، يقوم القشر البصري في الدماغ بتحليل الألوان، الأشكال، والحركة.. المدهش أن الأمر يستغرق نحو ثانية واحدة ليقرر الدماغ ما إذا كان هذا المحتوى يستحق الانتباه أم لا.

اكتشف علماء النفس المعرفي أن متوسط مدى انتباه الإنسان انخفض إلى 8.25 ثانية فقط، وفقًا لعدة دراسات رصدتها مقالة على منصة neuro، ما يعني أن صانع المحتوى لديه أقل من 9 ثوان ليقنع الجمهور بأن محتواه يستحق وقته، لكن الأهم من ذلك، أن معظم القرارات تُتخذ في الثوان الثلاث الأولى.

ولفهم سحر الثانية الثالثة، دعنا نتخيل أن دماغك مسرح معقد يضم 3 ممثلين رئيسيين: منطقة المكافآت، آلة اكتشاف الفجوات، وكاشف انقطاع الأنماط.

منطقة المكافآت هي التي تطلق كمية صغيرة من الدوبامين - ليس بسبب المتعة، بل بسبب التوقع - دماغك يتمنى أن يكون هذا الفيديو ممتعًا.
وفي الوقت نفسه، يعمل الجزء الأمامي من القشر المخي على اكتشاف ما يسميه علماء النفس "فجوات المعلومات"، بمعنى أنه إذا بدأ الفيديو بسؤال مثل "هل تعلم أن 70% من الناس يفعلون هذا الخطأ؟" فإن دماغك يدخل في حالة فضول مُحفز.
الدماغ البشري مبرمج لملاحظة أي شيء يكسر النمط المتوقع، فإذا بدأ فيديو بصمت مفاجئ، أو بصوت غير متوقع، أو بحركة كاميرا غريبة، فإن النظام العصبي يصدر "إنذار انتباه" فوري.

لماذا الثانية الثالثة تحديدًا؟

الآن أجيبك على سؤال الموضوع الرئيس، والإجابة تكمن فيما يسميه علماء الأعصاب نافذة التقييم الحاسمة (Critical Evaluation Window). خلال أول ثانيتين، يكون دماغك في وضع "الاستطلاع السريع" - يجمع المعلومات الأولية عن المحتوى، ولكن في الثانية الثالثة، يكون الدماغ قد اتخذ قرارًا واعيًا حول ما إذا كان سيستمر منتبهًا أم يبحث عن شيء أكثر إثارة.

يعتمد الدماغ في قراره على ثلاثة عوامل:

  • مستوى الإثارة العاطفية الذي خلقه المحتوى
  • درجة الفضول التي أثارها
  • التوقع المستقبلي للمكافأة

إذا نجح المحتوى في تحقيق معادلة هذه العوامل الثلاثة بحلول الثانية الثالثة، فإن المشاهد يدخل فيما يُسمى حالة الانخراط المستمر، ومن هذه اللحظة، يصبح من الصعب جدًا التوقف عن المشاهدة.

كيف تلفت انتباه المشاهد في 3 ثوانٍ؟
لننتقل الآن إلى الجزء الأهم والذي ينقلك إلى عالم صناع المحتوى الناجحين، والذين يفهمون هذا العلم جيدًا ويطبقونه في عملهم. سأخبرك ببعض التقنيات الفعالة التي أطبقها في عملي لجذب الانتباه في الثواني الأولى.

الخطاف الصادم
"هذا الشيء البسيط في مطبخك يمكن أن يقتلك" - هذا النوع من البدايات يخلق ما يسميه علماء النفس "فجوة فضول" فورية، الدماغ يصبح في حالة توتر إيجابي: يريد أن يعرف الإجابة.

انقطاع النمط البصري
بدلًا من الدخول في صلب الموضوع مباشرة، أحيانًا أطوّع الصورة لإظهار شيء غير متوقع، من أجل مخالفة توقعات المشاهد وإجباره على السؤال: "ما علاقة هذا بالموضوع؟".

التشويق المؤجل
"سأخبرك بسرّ غيّر حياتي تمامًا، لكن أولًا.."
هذه التقنية تخلق توترًا سرديًا يجعل المشاهد يشعر أنه يجب أن يصبر قليلًا للحصول على المعلومة القيمة.

هذه بعض التقنيات الشخصية والشائعة بين صانعي المحتوى، ولأن المجال لا يتسع للمزيد.. دعني أظهر لك الجانب المظلم لهذا النظام المستخدم في جذب الانتباه.

الجانب المظلم للمحتوى القصير
أظهرت دراسة نشرتها دورية frontiersin في 2024 أن الاستهلاك المفرط للمحتوى القصير يؤثر سلبيًا على قدرتنا على التركيز لفترات طويلة.

استخدم الباحثون تقنية تخطيط كهربية الدماغ (EEG) لاكتشاف انخفاض في موجات ثيتا في المنطقة الأمامية للدماغ، وهذه الموجات مرتبطة بالسيطرة التنفيذية والقدرة على التحكم في الانتباه.

عندما نشاهد فيديوهات قصيرة متتالية، يضطر دماغنا للتنقل بين مواضيع مختلفة تمامًا كل 15-30 ثانية، ما يخل بالذاكرة قصيرة المدى ويجعل من الصعب علينا التركيز على مهمة واحدة لفترة طويلة.

ربما أناقش معك عزيزي القارئ في مقالة قادمة المبدأ الذي جعلنا ندمن المحتوى القصير، وكيف تجنب الوقوع في الفخ، لكن ختامًا، أود لفت انتباهك إلى أن المحتوى القصير مرآة تعكس طبيعتنا البشرية الأساسية، حاجتنا للقصص السريعة، والمكافآت الفورية، والتنوع المستمر - كل هذا موجود في جيناتنا منذ آلاف السنين، لكن مهمتنا أن نشكل علاقة صحية مع عالمنا الرقمي.

مقالات شائعة

Share:
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram